أخبار ساخنة

لبنان بين العدوان والإعمار: الجنوب والضاحية والبقاع والهرمل ينهضون من تحت الركام تقرير: رامي ضاهر


من الجنوب إلى البقاع مرورًا بالضاحية الجنوبية، يعيش لبنان اليوم بين وجع الدمار وأمل الإعمار.
الاعتداءات الصهيونية الأخيرة خلّفت وراءها آلاف الوحدات المهدّمة، ومئات آلاف المهجّرين، ومشاهد مؤلمة من الخراب الذي طال المنازل، والمؤسسات، والبنى التحتية، وحياة الناس اليومية.
ورغم كل ذلك، يبقى الإصرار على الصمود والعودة أقوى من كل الدمار، فإرادة اللبنانيين لم تنكسر، وإيمانهم بالأرض ما زال ينبض بالحياة.

الجنوب: بين الحنين إلى الأرض ومرارة الدمار

عودة مؤقتة وحياة شبه معدومة

رغم الهدوء النسبي الذي يخيّم على القرى الحدودية، تبقى العودة إليها محدودة ومؤقتة. الأهالي يزورون بيوتهم لتفقّدها، لكنهم يعجزون عن الإقامة بسبب الخطر الدائم وغياب مقومات الحياة.
في كفركلا مثلًا، خرج أكثر من 95% من المنازل عن صلاحية السكن، فيما تحوّلت قرى بأكملها إلى أنقاض، وسط غياب شبه تام للخدمات الأساسية.

الاستهداف طال الحجر والبشر

حتى فرق الإسعاف والدفاع المدني لم تسلم من القصف، إذ استُهدفت أثناء عمليات الإخلاء والإنقاذ، وسقط عدد من الشهداء من صفوفها. كما فقد كثير من المدنيين حياتهم أثناء محاولتهم العودة إلى منازلهم أو ترميمها.

أبرز التحديات أمام العودة:
• غياب البنى التحتية (مياه، كهرباء، طرقات).
• خطر الألغام والذخائر غير المنفجرة.
• منازل مدمّرة أو منهوبة.
• غياب الدعم الرسمي والإغاثة السريعة.
• تكاليف مرتفعة لإعادة الإعمار.
• خوف دائم من تجدّد الاعتداءات.

ورغم كل ذلك، يصرّ الأهالي على العودة، معتبرين أن البقاء في الأرض هو فعل مقاومة بحد ذاته، ورسالة تحدٍّ وصمود.
شهادات من الميدان

مختار العديسة ماهر رمال: “الحياة معدومة”
يقول المختار ماهر رمال إنّ الحياة في كفركلا والعديسة شبه معدومة:
"عائلة واحدة فقط عادت إلى كفركلا، وحوالي 12 عائلة في العديسة،

والوضع الأمني لا يزال خطرًا. العدو يتوغّل أحيانًا داخل القرى، والطائرات المسيّرة ترمي القنابل الصوتية على الناس. لا مياه ولا مواد غذائية متوفرة."

جهاد دياب، نائب رئيس بلدية كفرشوبا: “ضرر هائل وعودة جزئية”
يؤكد دياب أن كفرشوبا من أكثر قرى العرقوب تضررًا، إذ تدمّرت نحو 160 وحدة سكنية جزئيًا أو كليًا، وتحتاج 650 وحدة أخرى إلى ترميم.
ويضيف: "عاد نحو 300 عائلة، أي 35% من السكان، لكن لا توجد مساعدات حقيقية. مجلس الجنوب كشف على المنازل ولم يقدّم شيئًا بعد، وجهاد البناء كانت أول من تحرك ميدانيًا لتقديم الإغاثة الأولية."

المهندس طارق مزرعاني من حولا: “القضية ليست حجارة فقط”
يقول مزرعاني: "ما يجري ليس حربًا جديدة بل استمرار لسياسة تهجير وتدمير. القرى من كفركلا إلى عيتا الشعب تعيش كارثة إنسانية. البيوت مهدّمة، والدولة غائبة، والناس بلا مأوى."
ويتابع: "لا يمكن الحديث عن إعادة إعمار قبل وقف العدوان. القضية ليست حجارة فقط، بل كرامة وحقّ بالعيش في الأرض. المطلوب خطة وطنية شاملة تعيد الحياة والعدالة إلى الجنوب."

الضاحية الجنوبية: مدينة تنهض من الرماد

الضاحية الجنوبية كانت في صميم الاستهداف، حيث طالت الغارات الإسرائيلية أحياء سكنية ومبانٍ تجارية ومؤسسات حيوية.
الدمار لم يقتصر على الأبنية، بل أصاب الحياة اليومية للناس، وفرص العمل، والخدمات العامة. آلاف العائلات تهجّرت مؤقتًا، وبعضها فقد كل ما يملك.

تُقدّر الأضرار بعشرات الآلاف من الوحدات السكنية المتضررة جزئيًا أو كليًا، فيما تشير تقارير المنظمات الإنسانية إلى حاجة المنطقة لبرنامج عاجل لإعادة الإعمار والبنى التحتية.
ورغم ذلك، يشهد الشارع الجنوبي اليوم عودة تدريجية للنشاط، مع جهود أهلية وشعبية لترميم الأبنية المتضررة وإعادة فتح المؤسسات الصغيرة، في مشهد يعكس إرادة الحياة التي ترفض الموت والانكسار.


البقاع والهرمل: دمار واسع وصمود صعب

أضرار جسيمة ونزوح داخلي

منذ اندلاع الاعتداءات، تعرّضت مناطق البقاع والهرمل لقصف مكثف أوقع دمارًا هائلًا بالمنازل والمؤسسات الزراعية والتجارية.

تُقدّر الأضرار بين 50 إلى 100 ألف وحدة سكنية متضررة في لبنان، منها آلاف في البقاع والهرمل.
وفي محافظة بعلبك – الهرمل وحدها، تضررت أكثر من 1,300 وحدة سكنية كليًا أو جزئيًا، وتوقفت محطات ضخ المياه والكهرباء في العديد من القرى.

رئيس بلدية بعلبك أحمد طفيلي: "المدينة تُركت لمصيرها"
يقول طفيلي إنّ المدينة تعرضت لدمار واسع، دون أي خطة حكومية جدّية للإغاثة أو الإعمار.
"لا وجود لموازنات، ولا حتى لتعويضات. الناس بلا مأوى، والدولة غائبة تمامًا. ما نحتاجه هو تدخل عاجل من المؤسسات الدولية والدولة اللبنانية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه."

رئيس اتحاد بلديات بعلبك حسين رعد: “الأزمة مالية وبنيوية”
يؤكد رعد أن البلديات تعاني من نقص حاد في التمويل، إذ لم تصل أموال الصندوق البلدي المستقل منذ عام 2023، ما شلّ قدرتها على التحرك.
"موظفونا لم يتقاضوا رواتبهم منذ 21 شهرًا، وأموال الإعمار مجمّدة رغم تخصيص 250 مليون دولار. الدولة غائبة، والهيئة العليا للإغاثة لم تقم بأي دور فعلي."

بيروت: ورشة إعمار بعد القصف

لم تكن بيروت بعيدة عن نيران الحرب الأخيرة، إذ طالها القصف الذي خلّف دمارًا في عدد من الأحياء السكنية والمرافق الحيوية.
المدينة التي تحمل ذاكرة الأوجاع والنهضات المتكرّرة، وجدت نفسها مجددًا أمام امتحان الصمود.
فرق الدفاع المدني عملت على إنقاذ العالقين وإخلاء الأبنية المتضررة، فيما أطلقت المؤسسات الأهلية مبادرات فورية لترميم المنازل والمحال التجارية.
ورغم حجم الخسائر، عادت الورش إلى شوارع العاصمة سريعًا، وبدأت عملية إعادة الإعمار بجهود محلية ودعم محدود من بعض المنظمات الدولية.
بيروت، كما في كل مرة، تنهض من تحت الركام لتؤكد أنها مدينة لا تعرف الانكسار، وأن إرادة الحياة فيها أقوى من كل قصف.

البعد النفسي للدمار : الجرح الذي الذي لا يُرى

تقول الأخصائية النفسية سارة حدرج:
"فعليًا، الناس لا تنجو من الحرب بمجرد خروجها من مكان القصف والابتعاد عن الخطر. صحيح أن هناك من نجا جسديًا، لكن الكثيرين يعيشون تحت ركام نفسي. بعد سنتين من الحرب، وخاصة في الجنوب، هناك واقع مختلف تمامًا بين من عاد إلى منزله ومن ما زال نازحًا.
البيت ليس مجرد جدران، بل جزء من هوية الإنسان، فيه طفولته

وذكرياته وعلاقاته وشعوره بالانتماء. زوال البيت يعني زوال جزء من الذات، وهنا يبدأ النزيف النفسي الحقيقي.
في ظل غياب أي وضوح زمني لإعادة الإعمار، يعيش هؤلاء حالة اللا يقين المزمن، المرتبطة نفسيًا بارتفاع مستويات القلق وصعوبة تنظيم العاطفة والشعور الدائم بعدم الأمان. أحيانًا تظهر ميول انسحابية واكتئابية. انتظار العودة تحوّل إلى وجع مزمن بسبب طول المدة وغياب الأفق، ويختلف هذا الأثر النفسي تبعًا للفئات العمرية."

نحو خطة وطنية شاملة

رغم الجهود المحدودة لبعض الجمعيات والمنظمات الدولية، تبقى الحاجة ملحّة إلى خطة وطنية شاملة لإعادة الإعمار تشمل:
• إزالة الألغام وتأمين القرى الحدودية.
• إعادة الخدمات الأساسية (الكهرباء، المياه، الطرقات).
• إطلاق ورشة إعمار منظمة.
• توفير تعويضات سريعة وعادلة للمتضررين.
• تفعيل البرامج الاقتصادية والزراعية لإعادة تنشيط المناطق المتضررة.

من الجنوب والضاحية إلى البقاع والهرمل، مرورًا ببيروت، تتشابه الحكايات وتختلف التفاصيل، لكن الثابت الوحيد هو صمود اللبنانيين في وجه الدمار.
لقد أثبتت التجارب أن الحروب تدمّر الحجر، لكنها لا تُهزم الإنسان، وأن ما

يحمله اللبناني في قلبه من حبّ لأرضه أقوى من كل عدوان.
فمن تحت الركام، تولد الحياة من جديد، ويعود الأمل بأن لبنان، وإن جُرح، لا يموت.