
لم يعد انقطاع المياه في لبنان حدثاً عابراً، بل تحوّل إلى أزمة يومية تضرب معظم المناطق، وتزيد من الأعباء الاقتصادية والمعيشية على المواطنين. من بيروت إلى القرى الجبلية والساحلية، يعيش اللبنانيون حالة من القلق الدائم لتأمين المياه، فيما بات أصحاب الصهاريج "المنقذ الوحيد"، ولكن بأسعار خيالية تفتك بجيوب الناس.
جولة ميدانية في إقليم الخروب والساحل
في جولة لـ"اللواء" على عدد من بلدات إقليم الخروب والساحل، برزت شكاوى الناس من الاستغلال الكبير.
في بلدة برجا، قال أبو محمد (62 عاماً)، موظف متقاعد:
"كنت آخد معاش التقاعد وأقسمه بين الدواء والأكل. اليوم صرت خصص قسم كبير بس للمياه. عشرة براميل بيوصلوا لمليون وخمسمية، وإذا بدي صهريج كامل لازم إدفع سبعة ملايين. كيف بدي عيش؟"
من جدرا، اشتكت أم حسين، وهي ربة منزل:
"عندي أربع ولاد، كل يوم بفكر كيف بدي أوفر مي للشرب والغسيل. المي اللي عم نشتريها مش دايماً نظيفة، مرات ريحتها مش طبيعية،
بس مجبورين لأنو ما في بديل."
أما سليم، شاب من كترمايا، فأكد أن الأزمة أثرت حتى على العلاقات الاجتماعية:
"صرنا نزور بعضنا أقل، لأنو كل بيت عندو حسابات المي. الضيافة تغيرت، الناس عم تحسب حتى المي اللي عم تقدمها للضيف."
في الساحل، حيث يعتمد الكثير من الأهالي على الزراعة، قال فادي، صاحب محل خضار:
"المي صارت أغلى من الخضرة. أنا بشتري صهاريج لري المزروعات، وهاد الشي رفع كلفة الإنتاج. بالنهاية الزبون هو اللي عم يدفع الفرق."
فوضى بلا رادع
أصحاب الصهاريج يشكلون اليوم شبكة بديلة لتأمين المياه، لكن عملهم يتم في ظل غياب أي رقابة أو تنظيم.
أحد سائقي الصهاريج، فضّل عدم ذكر اسمه، أوضح:
"نحن كمان عم ندفع حق المازوت والصيانة، بس صحيح في ناس عم
تستغل. ما في تسعيرة رسمية، وكل واحد بيحدد السعر على كيفه. في مناطق عم يبيعوا العشرة براميل بمليون، وفي مناطق بمليونين."
هذه الفوضى خلقت سوقاً سوداء للمياه، حيث باتت السلعة الأساسية خاضعة لمزاج التجار والوسطاء، في ظل غياب البلديات والدولة.
الأثر الاقتصادي والاجتماعي
الأزمة لم تعد مجرد "شح في المياه"، بل تجاوزت ذلك لتصيب الاقتصاد والمعيشة مباشرة:
العائلات: كلفة المياه قد تصل إلى 30 – 40% من مدخول الأسرة الفقيرة.
المصالح الصغيرة: الملاحم، المطاعم، الأفران، ومحلات الخضار يضطرون لزيادة أسعارهم لتعويض ما يدفعونه على المياه.
الزراعة: كثير من المزارعين تركوا أرضهم لعدم قدرتهم على شراء المياه، ما يهدد الأمن الغذائي المحلي.
الصحة العامة: غياب الرقابة على مصادر تعبئة الصهاريج يفتح الباب أمام مخاطر التلوث والأمراض.
صرخات الأهالي
تقول سعاد من كترمايا:
"المي مش رفاهية، المي حق. بس صار بدنا ندفع أضعاف ليجينا شوية براميل. ليش الدولة مش قادرة تنظّم الموضوع؟"
ويضيف أبو علي من الجية:
"صرنا رهينة أصحاب الصهاريج. إذا ما دفعنا، ما منشرب. وين البلدية؟ وين الدولة؟"
غياب الدولة وتنامي اقتصاد الصهاريج
غياب خطط واضحة من قبل وزارة الطاقة أو مؤسسات المياه الرسمية جعل من الصهاريج البديل الوحيد، فتحولت الأزمة إلى "اقتصاد موازٍ" قائم على الفوضى.
من جهته أكد الخبير الاقتصادي والبيئي الدكتور بلال علامة لـ"اللواء" موضحاً:
"المشكلة لم تعد خدمية، بل اقتصادية واجتماعية. تكلفة المياه اليوم توازي تكلفة الكهرباء، وأحياناً تتجاوزها. استمرار هذه الأزمة يهدد الأمن المعيشي، ويزيد من نسب الفقر، ويضعف الإنتاج المحلي."
بدوره الخبير المائي في علم الكيمياء الدكتور شوكات يوسف بركات أكد أنه رغم ما يتمتع به لبنان من وفرة في الموارد المائية، نتيجة موقعه الجغرافي على البحر المتوسط وغزارة أمطاره سابقًا، إلا أن الواقع يشير اليوم إلى أزمة متفاقمة في إدارة المياه واستخدامها.
وفي مقابلة خاصة، يوضح الدكتور شوكات يوسف بركات، الخبير في علم الكيمياء والمياه، أن "لبنان يمر بمرحلة حرجة مائيًا، ليس بسبب ندرة المياه فقط، بل نتيجة الاستهلاك المفرط، وسوء الإدارة، وغياب الرقابة على الموارد الجوفية".
من الينابيع إلى الآبار
يقول الدكتور بركات: "في السابق، كانت المياه تُستخرج من ينابيع طبيعية مثل نهر الكلب لتغذي مناطق واسعة من بيروت وضواحيها. لكن مع ازدياد عدد السكان وتغير نمط الحياة، لم تعد هذه المصادر كافية".
ويضيف: "كانت الدولة توزع المياه بمعدل نصف متر مكعب يوميًا لكل منزل (حوالي 500 ليتر)، وهي كمية بالكاد تكفي للطبخ والغسيل والاستحمام. أما العائلات الأكبر حجمًا، فكانت تحصل على متر مكعب يوميًا، في نظام كان مضبوطًا بدقة في الماضي".
التحول إلى الآبار والنتائج السلبية
مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية، ضعفت قدرة الدولة على التحكم بشبكة المياه، ما دفع الأهالي والمؤسسات لحفر آبارهم الخاصة. لكن
د. بركات يحذر من هذا التوجه قائلاً: "الحفر العشوائي وغير المنظم للآبار أدى إلى انخفاض كبير في منسوب المياه الجوفية. الآبار التي كانت تصل إلى المياه على عمق 50 مترًا، باتت تحتاج إلى أكثر من 150 أو 200 متر".
الأخطر من ذلك، كما يوضح الدكتور، هو ما يحدث في المناطق الساحلية: "بسبب السحب المفرط، بدأت مياه البحر تتسرب إلى الخزانات الجوفية، مما أدى إلى ملوحة المياه، وهو ما يجعلها غير صالحة للشرب أو للزراعة".
الحلول المطلوبة
يؤكد الدكتور شوكات بركات أن الحل لا يكمن فقط في إيجاد مصادر جديدة للمياه، بل في إدارة أفضل لما هو موجود حاليًا. ويقترح عدداً من الخطوات العاجلة:
1. فرض رقابة صارمة على حفر الآبار الخاصة.
2. تحديث شبكة المياه الوطنية لمنع الهدر.
3. إطلاق حملات توعية لترشيد الاستهلاك.
4. تطوير البنية التحتية لمعالجة المياه وإعادة استخدامها في الزراعة.
يختم الدكتور بركات حديثه قائلاً: "لبنان لا يعاني من ندرة مائية طبيعية، بل من سوء إدارة مائية. وإذا لم يتم تدارك الوضع، فنحن مقبلون على أزمة قد تؤثر على الأمن الغذائي والصحي والاقتصادي للبلاد".
إذا أزمة المياه في لبنان باتت جرس إنذار حقيقي. المواطن اللبناني يُترك لمصيره، بين شحّ الموارد وجشع التجار، فيما تغيب الدولة عن دورها في إدارة أبسط مقومات الحياة. وإلى أن تُرسم خطة واضحة لتأمين مصادر مياه مستدامة وتنظيم قطاع الصهاريج، سيبقى اللبنانيون عالقين في دوامة العطش وفوضى الأسعار.
تحقيق :رامي ضاهر/إقليم الخروب