لا تزال أنظار العالم مشدودةً ومصعوقةً أمام ما يتـمُّ اكتشافهُ يوماً بعد يوم في دولة تاريخية إسمها سوريا .
حاكمٌ يقصف شعبه بالبراميل المتفجرة والكيماويات، حطّم الأرقام القياسية في فنون البطش والتعذيب والقمع والترهيب والذبح في مسالخ الزنزانات ، حتى في أساليب المذابح هناك بعضٌ من الرحمة ، يقول النبيّ : "إنّ الله كتبَ الإحسان بالقتل فإذا قتلْتُـمْ فاحسنوا القتل وإذا ذبحتُـمْ فاحسنوا الذبح" (رواه : مسلم) .
هذه الفواجع في سوريا ستظلُّ راسخةً في أذهان التاريخ تتناقلها الأجيال في كلِّ مكانٍ وزمان ، كمثل ما تُروى مجازر نيرون في رومـا ، وهتلر في المانيا ، وموسوليني في إيطاليا ، وستالين في روسيا ، وهولاكو في يغداد ، وتيمورلنك في الشام .
هل كان حلفاء النظام السوري يعلمون بما كان يجري في معتقلات الموت والمقابر الباردة ...؟ وهل كان المجتمع الدولي يعرف كيف كان الناس يعيشون في سوريا وكأنهم أمواتٌ يتنفّسون ...؟
والذين نادوا وينادون بوحدةِ المسار والمصير شعاراً حتميّاً بين لبنان والنظام السوري ، كيف كانوا يتوقّعون اليوم ، لو أصبح مصير لبنان واللبنانيين كمثل ما كان في سوريا ...؟
لقد توارث الحكام في سوريا مسيرة الإنقلابات العسكرية ، المنتصر فيها يسيطر بالعنف ، ويفـرُّ المهزوم هرَبـاً من رهْبـةِ السجون والإعتقال والإغتيال ، ولم يكن إلاَّ لبنان ملجأً رحباً للمغضوب عليهم من الزعماء والرؤساء ومنهم : أكرم الحوراني ، خالد العظم ، ناظم القدسي ، إحسان الجابري ، شكري القوتلي ، سعدالله الجابري ، عبد الحميد السرّاج وغيرهم .
والطريف ، أنّ خالد العظم لما تولّى الحكم في سوريا ، شـنَّ حملة على الحكم اللبناني وضيَّق الخناق على اللبنانيين وألغى التبادل الجمركي ، وحين أصبح منفيّـاً في لبنان وتوفّى فيه ، لم يُفسح لأهله أنْ يدفنوه في سوريا فدُفِـنَ كوديعة في لبنان .
ولا تسأل في المقابل ، وفي عهد النظام السوري القمعي ، عمّا حـلّ على لبنان والحكم في لبنان من تضييق وسيطرة واغتيالات ، ولا تسأل عن المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية الذين يُخشى أن يكونوا ضحايا المكابس .
أمّـا بعد ، فلا بـدّ للفواجع التي ارتُكبتْ في سوريا من أن تشكّل إنذاراً للأنظمة الإستبدادية التي تنتهج أسلوب الطغيان والتعسّف العنيف لقهر شعوبها ، فإنّ القَيـْدَ لا بـدّ من أن ينكسر ، ولا بُـدّ للظالم من أن يُبلى بأظلمِ .
وإنّ أبـرز ما يسخْلِصُه الثوار السوريّون مِـنْ عِبَـرِ التاريخ ، هو أن يجعلوا من لبنان : نظاماً وصيغـةً مثلاً يُحتذى لسوريا الجديدة .
لعلّها تكون ساعة اليقظة التاريخية لإعادة بناء سوريا على أسس حضارية كدولة عصرية تنهـلُ ثقافة الحياة لا ثقافة الموت ، تُخْـرِجُ نفسَها من محور ساحات الحرب إلى ساحة السلام لتحقيق إنسانية الإنسان ورفاهيته وحريته وسعادته .
إن أخطر ما يعانيه بعض الأنظمة العربية هو استخدام السيف لقتل العقل ، واستخدام الدين سلاحاً حربياً للسيطرة السياسية فيستحيل الدين وسيلة للإستبداد .
يقول الكواكبي ، في كتابه : "طبائع الإستبداد "إذا كان الإستبداد نـزعةً ترجع إلى الدين فيصبح الديـن مرتبطاً بالنظام الإستبدادي ، فإنك تكون أمام خيارين : إمّـا خيار تغييـر الدين وإمّـا خيار تغيير الإستبداد ..."
في بلاد الإغريق أشتهرت أسبرطة بالسيف والقتل والحرب ، واشتهرت آثينـا بالفكر والعقل ، وما لبثت أنْ توشّت أسلحة الحرب بالصدأ في أسبرطة ، وتعمّمت ثقافة الفكر الآثيني على العالمين .
أَفَمـا آن بعد طول هذه القرون أن تصل ثقافة الفكر الآثيني إلى هذا العالم ليدركَ أخيراً أنَّ السيفَ لا يقتل العقل .
عن جريـدة الجمهورية
بتاريخ : 20/12/2025