أخبار ساخنة

غزّة: أنفاق المثلّث الحديدي في وجه الحرب البريّة



ما هو السيناريو المتوقع لقطاع غزة: حرب برية أم حصار طويل؟ حكومة بنيامين نتانياهو في إسرائيل بين حذر الوقوع في مصيدة حماس، وتحذير الرئيس الأميركي جون بايدن لها ومعه الخبراء العسكريون من اجتياح بري لا يُبقي في المنطقة حجراً على حجر.

فهل يخرج نتانياهو من دائرة الخوف من مجهول الأنفاق، فينفّذ وعيده لأهل غزة؟ أم يكتفي بقتل المدنيين وتجويعهم إلى أن تستسلم حماس؟
حتّى لو بدأ الاجتياح من أطراف القطاع أو من منتصفه حيث أضيق مسافة بين البر والبحر، فقد يتحوّل إلى أداة ضغط ميداني فقط، لتحقيق الهدف الإسرائيلي الاستراتيجي، وهو التخلص من حماس، بل من غزة بعد دمارها العميم. فما هي الاحتمالات الممكنة، وما هي الآثار؟

لماذا تأخّرت الحرب البرّية؟

تهدّد إسرائيل بالاجتياح البري، مع الاستعداد الكامل لخوض القتال المرير من منزل إلى منزل. لكنه حتى الآن، حصارٌ وقصفٌ وقتلٌ وتجويعٌ للمدنيين، توصّلاً إلى استسلام حماس بأقل كلفة ممكنة، أو ضمان خروجها الكامل من القطاع بضمانات ما، قد تكون موضع مفاوضات من خلال الوسطاء العرب والأوروبيين.
فهل تستطيع إسرائيل تجنّب التورّط في حرب أنفاق، هي أصعب ما قد تشهده إسرائيل في تاريخها العسكري، وقد تكلّفها الآلاف من الجنود، وتدمّرها نفسياً وسياسياً واستراتيجياً، حتى لو انتصرت تكتيكياً وعسكرياً؟

صن تسو: الانتصال بلا قتال

إنّ التلكّؤ في الهجوم البري، والإمعان في القتل الجماعي للمدنيين، مع تدمير المستشفيات، أو إخراجها من الخدمة، من أهم المؤشرات إلى أنّ حكومة نتانياهو تتمنى الانتصار من دون قتال، بحسب ما ينصح به المنظّر الاستراتيجي الصيني صن تسو Sun Tzu (توفي عام 496 ق.م) في كتابه "فنّ الحرب" أو بأقل اصطدام ممكن، مع مقاتلي حماس الأشداء، والذين يتمنون لقاءهم وجهاً لوجه في الأنفاق والزواريب وبين الأنقاض، لقتل أكبر عدد ممكن منهم.

فهل التأخّر في شنّ الحرب البرية أفضل مع حسابات دقيقة لاحتمالات النجاح والفش؟ أم من الأفضل التسرّع بالقيام بها من دون حسابات كافية، انتقاماً للقتلى الإسرائيليين في غلاف غزة، واستغلالاً للتأييد الغربي المطلق قبل أن ينحسر كلما انتشرت صور الشهداء من أطفال غزة؟
بالرجوع إلى صن تسو، وكتابه الذي لم يبهت أثره مع مرور القرون وتطوّر التقنيات والتكتيكات، نجد النصائح التالية: "القائد الغبي بطبيعته لن ينتصر أبداً باستخدام القوة الغاشمة في سرعة كبيرة.. لكن إذا كان يمكن تحقيق النصر، فالتسرّع الأحمق أفضل من التأنّي الماهر". ويقول في موضع آخر: "كل ما يتعلق بالحرب مبنيّ على الخداع. فعندما تستطيع الهجوم، يجب أن تبدو كأنك عاجز عنه. وعندما تناور وتتحرك بالقوات يجب أن تبدو خاملاً. وعندما تقترب ينبغي أن يعتقد العدو أنك بعيد. وعندما تكون بعيداً ينبغي أن يظنّ العدو أنك قريب". وهذا ما طبّقته حركة حماس قبل هجومها الصاعق في 7 تشرين الأول الحالي، فكان نجاحها مذهلاً. وربما يكون ما ينتشر الآن من أنباء من داخل إسرائيل، عن وجود انقسام داخل الجيش، وبين العسكر والمدنيين، وبين أعضاء الحكومة المصغّرة، وبين إسرائيل والولايات المتحدة بشأن تداعيات الحرب البرية والمخاوف من اتساع نطاق الحرب، نوعاً من الخداع التكتيكي، لنشر الاسترخاء بين مقاتلي حماس، وتشكيل المفاجأة الإسرائيلية العملياتية في اللحظة المناسبة.

صعوبات ميدانيّة

قرّرت إسرائيل وخلفها وأمامها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، القضاء تماماً على حركة حماس في قطاع غزة، في كسر حاسم ونهائي لاستراتيجية المناوشات الدورية منذ سيطرة حماس على القطاع عام 2007. لكن القضاء على حماس كحركة مسلحة وقيادة سياسية وحكومة إدارية، يفترض خوض الجيش الإسرائيلي ما كان يتجنّبه على الدوام، أي اجتياح مناطق حضرية كثيفة السكان، والاكتفاء بحصارها وقصفها والالتفاف حولها، إلى أن يستسلم أعداؤها لإرادتها، كما حصل عام 1982، إبّان اجتياح لبنان، وحصار منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت.

في ذاك العام، طوّقت إسرائيل البلدات والمدن، التفّت حولها، وتابعت طريقها نحو بيروت حيث كانت تتحصّن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وعلى رأسها ياسر عرفات. فلمّا وصلت إلى العاصمة، نفّذت المناورة نفسها. أطبقت عليها، وحاصرتها كما تحاصر غزة اليوم، وقصفت معالمها البارزة، بناء إثر آخر، باعتبار أنها تؤوي ياسر عرفات، أو غيره من القادة، وقطعت الكهرباء والمياه والغذاء عن سكان بيروت، لإجبارهم على إخلائها أو الضغط على القوات الفلسطينية لقبول الاتفاق بوساطة الموفد الأميركي اللبناني الأصل فيليب حبيب، والخروج أخيراً من بيروت، بضمانات دولية. وكلّ المعارك التي خيضت آنذاك، وكان أعنفها أواخر تموز ومطلع آب، قبيل إبرام الاتفاق في 18 آب، هي تفاوض تحت النار.

تراجعت إسرائيل عن مطلبها الأصلي وهو استسلام القيادة الفلسطينية كي تضع عرفات ورفاقه في قفص أو ما شابه، وتنازلت منظمة التحرير عن تشبّثها بالقتال حتى الموت على طريقة ستالينغراد السوفيتية في الحرب العالمية الثانية. خرج المقاتلون بسلاحهم الفردي، وبحماية القوات الدولية المؤلفة من وحدات أميركية وفرنسية وإيطالية. فلما اغتيل الرئيس بشير الجميّل في 14 أيلول، ودخلت القوات الإسرائيلية إلى بيروت، في نقض للاتفاق المبرم مع منظمة التحرير، تعرّضت لهجمات متفرّقة وغير منظّمة في شوارع العاصمة المنهكة من القصف والحصار، فسارعت إسرائيل إلى سحب قواتها خلال أيام قليلة طالبة من أهالي بيروت عدم إطلاق النار عليها.

لقد حينها حسبت إسرائيل عدد البنايات في بيروت الغربية، فوجدت أن فيها يومذاك ما يقرب من 50 ألف بناء، ولو انطلقت رصاصة من كل بناء، فكم سيسقط من جنود؟ كانت مجزرة صبرا وشاتيلا تحت إشراف أرييل شارون، هي الدخان الأسود المرعب، الذي يُغطي دخول الجيش الإسرائيلي إلى غرب بيروت. ومع ذلك، لم يجرؤوا على البقاء في بيئة حضرية غير صديقة، إلا أياماً قليلة.

تحذيرات أميركيّة

مع الاستعدادات الإسرائيلية المكثّفة لخوض الحرب البرية في قطاع غزة، توالت التحذيرات من خبراء وضباط أميركيين، كانوا مشاركين في معارك مدن، وأسفرت عن خسائر فادحة، مثل معركتي الفلوجة الأولى والثانية في غرب العراق عام 2004 ضدّ المقاومة العراقية، وسقط فيها 95 جندياً أميركياً، ومئات الشهداء المدنيين، ومعركة الموصل بين عامي 2016 و2017 ضدّ مقاتلي داعش الذين كانوا يتخذون من المدينة عاصمة دولتهم. استغرقت المعركة 9 أشهر، وسقط فيها أكثر من 10 آلاف مدني، مع لحاظ أنّ الموصل هي المدينة الثانية بعد بغداد. أما في ما خصّ حرب الأنفاق، فالمخاطر أكبر بكثير، والمعركة أكثر تعقيداً بما لا يُقارن.

وليس استخدام الأنفاق جديداً في الحروب، فقد استُعملت المغاور الطبيعية والأنفاق المستحدثة في النزاعات القديمة قبل آلاف السنين، للتخفّي تارة من عدو قويّ ومفاجأة العدو تارة أخرى، عبر حفر أنفاق لاقتحام حصون، أو فكّ حصار خانق، أو تدمير مواقع وقواعد. ومع استعمال البارود في القرن السادس عشر، كانت الأنفاق وسيلة لتفخيخ باطن الأرض وتدمير وحدات العدو. وهو ما جرى في الحرب الأهلية الأميركية بين عامي 1861 و1865. وفي الحرب العالمية الثانية، حين فجّر البريطانيون الأنفاق تحت مواقع ألمانية فسقط 10 آلاف قتيل، وأُسر 7 آلاف آخرون.

أمّا النموذج القتالي الأكثر فعالية وتطوّراً في القرن العشرين، فهو ما ابتكره الفيتناميون الشماليون، في مواجهة فرنسا أولاً بين عامي 1946 و1954، وتجنّباً للغارات الأميركية ثانياً في الحرب الفيتنامية الثانية بين عامي 1960 و1975.

فقد بنى الفيتناميون قاعدة عسكرية متكاملة تحت الأرض، ليس بعيداً عن سايغون في فيتنام الجنوبية (40 كيلومتراً إلى الشمال منها)، وكان فيها شبكة معقدة ومنظّمة من الأنفاق، المصمّمة بطريقة ملتوية حتى تصعّب على المهاجمين التخلّص من المدافعين، وعلى مستويات مختلفة لتجنّب إغراقها بالمياه، وفيها فتحات للتهوئة لمقارعة محاولة تسميمها بالغاز على أنواعه، أو حرقها باللهب. كانت تضمّ قيادة الأركان، وفيها كل وسائل الحياة، والتخزين الغذائي والسلاحي. مع الأخذ بعين الاعتبار، الإجراءات المضادة لأيّ اختراق لها، أو تدميرها من الجو.

عقدة الأنفاق في منطقة المثلث الحديدي Iron Triangle. مساحتها تقارب مساحة غزة (310 كيلومترات مربعة مقابل 360 كيلومترا مربعا لقطاع غزة). لم تنجح كل الوسائل في تدمير أنفاق الفيتكونغ أو الفيتناميين الشماليين. حتّى الغارات السجّادية التي قامت بها القاذفات العملاقة بي 52 لم تكفِ للتخلّص منها. فكان الحلّ بالقتال الفردي داخل الأنفاق نفسها، حين شكّل الأميركيون فرقاً خاصة (فئران الأنفاق tunnels rats). كانت المعدات المستخدمة في استكشاف الأنفاق بدائية. وفي أغلب الأحيان كانت تتضمّن مصباحاً يدوياً وسكيناً ومسدساً، مع سدّادات الأذن لأن صوت المسدس يصمّ الآذان في الأنفاق. وهذا كله باعتبار أنّ تلك الأنفاق كانت ضيقة جداً، وليست كأنفاق حماس. إلا أنّ المخاطر لن تكون أقل، إذا فخّخ خبراء حماس بعض الأنفاق، أو زرعوا فيها متفجرات ضخمة، لتدمير الوحدات الإسرائيلية في الوقت المناسب، أو أخفوا مخارج منها لشنّ الهجوم المفاجئ من خلف خطوط العدو. ويبدو أنّ الجنود الأميركيين الذين خصّصهم بايدن لمساعدة إسرائيل، قد تلقّوا تدريبات خاصة، أو هم فعلاً "فئران أنفاق".

لأكثر إثارة للقلق، أن لا أفق سياسياً لحرب إسرائيل سوى "الترانسفير" لترحيل القضية الفلسطينية إلى دول الطوق. وهذا ما ينقض المبدأ الأساسي للمنظّر البروسي كارل فون كلاوزفيتز Carl von Clausewitz (توفي عام 1831)، الذي ينصّ على أنّ الحرب امتداد للسياسة بمعنى ما. وإلا فإنّ القضاء على حماس أو القضية الفلسطينية أصبح أصعب بكثير بعد 7 تشرين الأول، وإن بدا العكس ظاهرياً.
هشام عليوان - اساس ميديا