
متري
بعد دخول موكب الأساتذة والطلاب يتقدمهم الدكتور متري يليه أعضاء هيئة التدريس فالطلاب المتخرجين، بدأ الاحتفال بالنشيد الوطني، ثم القى الدكتور متري كلمة، اكد توجه فيها الى المتخرجات والمتخرجين، قائلا: "ببركة سيادة المتروبوليت الياس، مؤسس جامعة القديس جاورجيوس وراعيها، نحتفل اليوم بكم ومعكم. ونسعد بما حققتم، بعد أعوام ثلاثة من العمل الجاد، تخللتها أسابيع بالغة القساوة، إمتحنت مثابرتكم. ويسرني أيضا الترحيب بكل من يشاركنا هذه المناسبة الطيبة، سعادة السفيرة سحر بعاصيري خطيب الاحتفال وأصحاب الدولة والمعالي والسعادة والسيادة، وأعضاء مجلس الأمناء والآباء الأجلاء وممثلي المؤسسات الطبية والتربوية الشقيقة والعزيزة. وأخص بمشاعر التهنئة والتقدير أهاليكم، من تعرفنا إليه عن قرب ومن يشرفنا بحضوره إلى الجامعة لأول مرة".
اضاف: "تعرفون كلكم أن جامعتنا ما زالت فتية، وان اشتد عودها وحظيت بسمعة طيبة ترتب علينا مضاعفة الجهد لتعزيزها. وهو ما يشعرنا جميعا في الأسرة الكبيرة التي صرناها بقيمة المشاركة في عملية البناء ومعنى الانفتاح على استقبال الأفكار الخلاقة، ما يساعدنا في العمل على رفع العوائق امامنا وفي التكيف مع الضرورات التي فرضت علينا بفعل الإنهيار الاقتصادي والمالي في لبنان. ولا يخفى عليكم ان الروح الخلاقة حفزت سعينا إلى التميز ومراجعة الذات والتعلم المستمر لا من النجاح والتقدم فحسب، بل من التردد والتعثر أيضا. ولعل الكثير منكم يختبر ذلك في حياته، ويعتمر في قلبه الإيمان أن "الله لا يهملنا، بل يدبر امورنا حتى ولو اخطأنا" من المزمور 27. لقد أصاب السعي إلى التميز، على همتكم وهمة أساتذتكم، بعض نجاح فاق توقعاتنا الحذرة وكان اقوى من شكوك البعض او تشكيكهم. حسبي أن أشير إلى النسبة العالية من المقبولين في كلية الطب بين مجموع المرشحين منكم. تفوقت هذه النسبة على نظيرتها في العام الماضي وعلى نسبة المقبولين هذا العام الذين أتوا الينا من جامعات أخرى، العريقة منها بصورة خاصة. تعلمون ان كل ذلك تحقق في عملية تنافسية لم يكن فيها أي تمييز إيجابي لصالح طلابنا. أقول ذلك لا من باب التفاخر، بل لكي يأتي ما تحقق دافعا إضافيا لنا جميعا، فنستمر في عملية التجدد المتواصل ونتعلم من أي خطأ أو تقصير".
وأشار إلى "الأهمية التي أوليناها وأوليتموها، في تكنولوجيا المعلومات كما في علوم الأحياء والكيمياء، لتعزيز القدرة على التعامل مع المكتسبات المعرفية الحديثة بحس نقدي وإمتلاك الأدوات التي تيسر ذلك من خلال دراسة اللغة والثقافيات والإنسانيات. ويحدونا الأمل أن تبينوا جدارتكم إذا ما اختار عدد منكم الإنخراط السريع في ميادين العمل، قديمها وجديدها، في بلادنا أو في الخارج. فتسهمون في صناعة سمعة الجامعة الطيبة كما أسهمتم في بنائها والتعريف بها".
وتابع: "وفيما يتعدى كل ذلك، رجاؤنا أن تكونوا شهودا للحق حيثما حللتم وعاملين من أجل إحقاقه في وجه غطرسة القوة والكراهية والخديعة. كما نرجو أيضا أن تظلوا أمناء للثقافة المشتركة التي انطبعت بها خبرتكم الجامعية ومعها أخلاق الإنصاف والإنفتاح والتمسك بالقيم التي يتأسس عليها عيشنا معا في مجتمع الجامعة وفي المجتمع الأكبر. ولا يخفى عليكم أن هذا العيش ليس هو مجرد تجاور وقبول متبادل بقوة الضرورة، بل هو سعي يومي للتحرر من أسر المواقف المسبقة والعصبيات الضيقة التي ما زالت تترصد مجتمعنا وتضع العوائق امام الإصلاح والنهوض. لقد تسارع الزمن في بلادنا وباتت فرصة انتشال لبنان من عمق ازماته متاحة لنا بعد ان بدت متعذرة في أواخر العام الماضي. الا ان الإفادة من الفرص ليست بالسهولة التي يفترضها البعض وليست مسؤولية فئة من المسؤولين دون سواهم فيما يكتفي أصحاب النفوذ وممارسي التعبئة الفئوية والسائرون وراءهم بالمراوحة بين التوقعات المرتفعة والخيبات المستعجلة. ولعل مسؤولية الجميع الأولى، في الظرف الحاضر، تحصين بلادنا وتجنيبها اذى الحروب المدمرة والوقاية من آثارها وعدم الانزلاق نحو رهانات وأوهام تكرر الوقوع فيها".
واردف: "لقد رأينا جزءا من شبيبتنا ينتكس، لسوء الحظ، إلى التدني السياسي والميل إلى الشقاق وعبادة الأصنام. ورأينا جزءا آخر، وأنتم منه، يذهب إلى جهة أخرى، إلى التحرر من سياسة الإملاء والإنقياد والإنضواء في الجمهور وإلى اختيار ممارسة للحياة سلمية وواعية وحوارية. وفي مواجهته العقلية الفئوية وحدة المشاعر الطائفية، تقوم هذه الممارسة على علاقات المواطنة. والمواطنة صنو الدولة بوصفها حامية الخير المشترك وراعيته. والدولة أشبه بغنيمة كثيرا ما تم تقاسمها أمام أعيننا. ولا تأتي المواطنة من التواريخ المنفصلة. لعلها تتأسس على الحذر حيال التماهي مع الجماعات العصبية ومن التلهي بالمنازعات التي تصنع كراهيات جديدة تحسبها تجديدا لكراهيات قديمة. كلنا يعلم ان الكراهية حبلى بالعنف، وتلده معنويا قبل ان يصبح فعليا. عرفناه في بلادنا ومنطقتنا باشكاله كافة، يصل الى حده الأقصى والأكثر فظاعة عند ارتكاب الجرائم ضد المدنيين وآخرها ما شهدناه منذ أيام. هذه الجرائم لا تصيب ضحاياها فحسب، بل المجتمع كله، حسبما جاء في الآية الكريمة: من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا".
وقال: "يعلم الكثير منكم أن الجامعة، بإرادة مؤسسها سيادة المتروبوليت الياس وعزمه وسهره، جاءت من تجربة طويلة في التعليم والرعاية الصحية في سبيل الخدمة العامة. كما دعيت كي تشهد لقيم أخلاقية وروحية تتجذر فيها مبادىء المساواة والعدالة والحرية، وتدرء مساؤى الجهل والقهر والعنف. ورب قائل أن الهوة كبيرة بين هذه الأفكار والواقع الذي أثخنته الحروب والمخاوف. لكن الواقع يبين لنا أن الطريق أمام الإنقسامات والعداوات مسدود. فإذا ما ظل لبنان مستغرقا بالخلافات من دون مجال كاف للإئتلاف حول تطلعات تتعالى عن المحاصصة، لن يوضع حد لتسارع التردي الذي طرد صفوة من الشباب اللبنانيين إلى خارج بلادهم".
اضاف: "ربما كان العمل الجامعي الجيد قادرا على الإسهام في الحؤول دون المزيد من العقم والتقهقر. فلا يبدو أشبه بظاهرة لا يلحظها الكثيرون وكأنها تحدث في أطراف حياتنا. لعلنا أمام محاولة تقويم عن طريق التعليم، مما يعيد صلتنا بالعالم ويفتح مجالا أوسع لحرية التفكير والإبداع ولتكوين فضاءات بعيدة من العوالم الضيقة التي لا تعرف خصوبة التلاقي. ولسوف ننتظر قبل أن يؤتى هذا التقويم باتعليم ثماره كلها. وعسى أن تكونوا بين الذين لن يجعلوا إنتظارنا طويلا. أيها الأصدقاء، أيتها الصديقات، يبقى أن أشد على أيديكم واهنئكم، وأدعو لكم، وأحيي أهلكم الكرام، وأشكر كل المسؤولين والأساتذة والعاملين في الجامعة الذين أوصلونا إلى هذا اليوم. وليكن إحتفالنا بمثابة تقدير لحسن ما فعلوا " فيكونون، كما يقول المزمور، مثل الأشجار المغروسة على ضفة النهر والتي تحمل ثمرا في كل موسم".
فارس
ثم تحدث عميد كلية الاداب والعلوم الدكتور حنا فارس، فهنأ الطلاب على إنجازاتهم، ثم تطرق الى "صعوبة التخطيط للمستقبل المهني في ظل ثورات تكنولوجية مثل الذكاء الاصطناعي، التي تجعل من الصعب توقع المهارات المطلوبة"، وذكرهم بأن "المهارات التي اكتسبوها لا تقتصر على مجال دراستهم، بل يمكن توظيفها لتعلم اختصاصات جديدة".
وختم قائلا: "إن أعظم قوة يملكونها هي نبلهم الإنساني، الذي سيساعدهم على مواجهة التحديات بهدوء، شرط أن يحترموا الآخرين ويطالبوا بالاحترام، ويجمعوا بين الحزم واللطف ويتصرفوا دائما بأخلاق ونزاهة".
بعاصيري
والقت السفيرة بعاصيري كلمة، قالت فيها: "يشرفني ان أكون جزءا من هذه اللحظة المهمة في حياتكم..اهنئكم من قلبي ليس فقط على ما أنجزتموه، بل على ما أصبحتم عليه. فاليوم ليس احتفالا بالشهادات فحسب، هو احتفال بنتيجة تعبكم وبإرادتكم وبالأحلام التي تجرأتم على التمسك بها رغم كل الصعوبات التي رافقت حياتكم ولاسيما سنواتكم الجامعية"، آملة ان "نكون نحتفل بإيمانكم بأن لبنان لا يزال يستحق العناء والبناء".
أضافت: "ترددت في تحديد ما أقوله لكم اليوم، وحاولت الاستعانة بالخطاب الذي سمعته يوم تخرجي، فلم اتذكر منه شيئا. وتأكدت من صحة نظرية سمعتها في هذا الشأن قبل سنوات. أدركت أن ما يبقى في الذاكرة ليس الخطابات، بل اللحظات والاثر الذي تتركه. لذلك سأكون سعيدة إن تذكّر أحدكم يومًا ما كلمة او فكرة اقولها".
وتابعت: "تقفون اليوم على عتبة جديدة. صفحة بيضاء تنتظر أن تخطّوا عليها فصولكم الخاصة. وأعرف أن هذا الشعور، رغم الفرح، يحمل شيئاً من الحيرة، وربما القلق: ماذا بعد؟ كيف نبدأ؟ إلى أين نمضي؟ لست هنا لأقدم لكم نصائح او إجابات جاهزة. فالحياة لا تأتينا مع كتيب تعليمات لنفعل هذا ولا نفعل ذاك. كل منا يكتب قصته بطريقته وحسب قناعاته. لكنني سأشارككم بعض ما تعلمته من خلال مسيرتي في الصحافة والكتابة، وفي عملي الديبلوماسي، وقبل أي شيء من خلال كوني انسانة تبحث عن معنى في ما تفعله".
واردفت: "قبل 45 سنة تماما كنت اجلس مكانكم انتظر ان اتسلم شهادتي. كانت حياة جيلي كلها علامات استفهام. كنا في سنوات المراهقة عندما بدأت الحرب، وظلت الحروب الصغيرة والكبيرة تتوالى. كان جيلنا يبحث دون جدوى عن امل. رفاق وزملاء يغادرون بلا عودة في الأفق. مع هذا – وربما كنت محظوظة- كانت فرحتي لا تسعني ليس لأنني سأتسلم الشهادة بل لأنني كنت اعرف انني سأبدأ عملي في المهنة التي اخترتها مدخلا لمحاولة فهم ما يحصل في لبنان: الصحافة، وفي الجريدة التي كان كل صحافي يومها يحلم بالعمل فيها: النهار. شغفي بمهنتي لم يتغير لحظة. ولم تقلل منه لا الحروب ومآسيها ولا التحديات والمخاطر اليومية ولا الخيبات الكثيرة والخسارات العديدة لزملاء واحباء. بل كل هذا زادني شغفا وتمسكا بمعنى ما افعل".
وقالت: "هذه كانت تحديات عامة. لكن كنت أيضا اواجه تحديات من نوع مختلف لكوني امرأة دخلت الى مهنة كانت غالبا للرجال وحصرا لهم في موقع المسؤولية. امرأة لم تكتف بذلك، بل "تطاولت على ما ليس للنساء" في إصرارها على كسر الصور النمطية في الصحافة. نجحت وتوليت موقع قرار ثم كتبت الافتتاحية قرابة 15 سنة. لا أقول هذا لأمدح نفسي بل للتأكيد ان الاصرار والجهد شرطان للتقدم وللفرص. ولولا وجود اشخاص يؤمنون بذلك لما كانت فرصتي ممكنة. وسأظل ممتنة لكبيرين في المهنة: استاذي غسان تويني رحمه الله واستاذي فرنسوا عقل اطال الله بعمره. ثلاث كلمات من هذه التجربة أعطت مفعولها معي واتمناها لكم: الشغف، الايمان والصدق. الشغف بما تفعلونه، لأنه يمنح العمل معنى، والإيمان بأنكم قادرون على التأثير، والصدق مع أنفسكم، لأنه أساس النجاح. واكتسب هذا الامر بُعدًا أوسع خلال سنوات تمثيلي للبنان في منظمة اليونسكو. فمن موقعها عند تقاطع التعليم، والعلوم، والثقافة، تُذكّرنا اليونسكو بأنّ التقدّم الحقيقي لا يُقاس بالأرقام والنسب فقط، بل بالكرامة، والمعرفة، والارث المشترك. ففي عالم تُديره الخوارزميات، تصبح الثقافة والتعليم علما للحياة، لا ترفا. لماذا؟ لأن التكنولوجيا تنتج آلات بكل ذكائها المتسارع، لكن التعليم يبني العقول التي تصنعها. ولأن العلوم تشرح العالم، لكن القيم تعطي الشرح معناه. ولأن الهويات تفرق، لكن الثقافة توحد. ولبنان غني بالثلاثة، بالتعليم بالقيم بالثقافة".
وتابعت: "أعرف أن هذا قد لا يكون لبنان الذي ترونه دائمًا في الأخبار، لكن أدعوكم إلى نظرة ثانية، هناك لبنان آخر ينهض بهدوء وثبات وصبر، وأراكم فيه،
لبنان الشباب الذين يبتكرون في العلوم والطب والتكنولوجيا من لا شيء لبنان المرأة التي تدخل بقوة الى كل المجالات فتصنع الفرق لنا جميعا. لبنان الكتاب والفنانون الذين يصونون ذاكرة الوطن ويرسمون ما قد يكون عليه واليوم، للمرة الأولى منذ وقت طويل، هناك نافذة صغيرة - قد تبدو هشّة لكنها حقيقية - نحو بناء جديد للبنان، لا يقوم على الحنين والذكريات، بل على الارادة والوضوح. وهذا يعني انكم لا تتخرجون الى فراغ بل الى فرصة. وشهادتكم ليست نهاية، ولا أقول بداية، بل هي أداة. أداة لفهم الواقع وتغييره".
وختمت بعاصيري متوجهة الى المتخرجين قائلة: "أعزائي وعزيزاتي، لا بأس اذا شعرتم ببعض الضياع. المهم الا تخلطوا بين الضياع والضعف. أنتم أقوياء. أنتم مجهزون، وقبل كل شيء، انتم حاجة للبنان. كل جيل في لبنان حمل شعلة. أحيانا خفتت وأحيانا أخرى انطفأت. الآن جاء دوركم لحملها فاحملوها نحو فجر جديد. ابدأوا. لا تخافوا الفشل او تغيير الطريق. فالهويّة ليست قالبًا، بل رحلة. اكتبوا قصتكم لا كما يتوقعها أحد منكم، بل كما تحلمون. فالعالم لا يحتاج إلى مزيد من التكرار، بل إلى من يجرؤون على التغيير. مبروك لكم. الآن تبدأ الحكاية. فاكتبوها بثقة ولا تترددوا".
عوده
ثم قال المطران عوده: "نحتفل اليوم بثمرة جهد طويل وسنوات من التعب والدراسة. نحتفل، ليس فقط بالحصول على شهادة، بل بنضوج فكري وروحي، وببداية جديدة نحو حياة مليئة بالمسؤولية والعطاء. في هذا اليوم المبارك، نرفع أعيننا أولا نحو الرب يسوع المسيح الذي هو "الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6). ففي كل طريق نسلكه، ينبغي أن يكون المسيح هو المرشد والمعلم الأول الذي به نوجد ونحيا ونتحرك".
اضاف: "اليوم، فيما تتخرجون متوجين سنوات من الجد والمثابرة، ومفتتحين حقبة جديدة ومسؤوليات أعظم، تختلط المشاعر بين الفرح والرجاء، بين الشكر على ما تحقق والتطلع لما هو آت. أيها الأحبة، العلم الذي حصلتم عليه ليس غاية في ذاته، بل هو وسيلة لصقل الذات وانفتاح العقل وتنمية الشخصية وتثمير المواهب. لكنه أيضا لخدمة الآخر، كائنا من كان، ولبناء مجتمع صحي ووطن حاضن لجميع أبنائه، والأهم لتمجيد اسم الله في أعمالكم متذكرين قول الرب: "ليضئ نوركم قدام الناس لكي يروا أعمالكم الصالحة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات" (مت 5: 16)".
وتابع: "أنتم مدعوون اليوم لا لتعيشوا لأنفسكم بل لتكونوا نورا في عالم مظلم بالخطايا والمصالح وحب الذات ورفض الآخر واستغلاله، ولتكونوا ملحا في زمن فقد الكثير من القيم والأخلاق. هذا العيش من أجل الآخر يجعلكم قريبين من ملكوت السماوات، لأنكم تشابهون في أعمالكم عمل الرب الذي بذل نفسه من أجل خلاص العالم. لتكن شهاداتكم وإنجازاتكم ومراكزكم المستقبلية منصات لخدمة الخير والحق والعدل، وليس للكبرياء أو التفاخر والحسد. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: "ليكن تعليمك سببا في خلاصك وخلاص من حولك". المعرفة الحقيقية لا تنفصل عن المحبة، والعلم من دون محبة ينفخ، أما العلم المغموس بمحبة الله وخليقته فيبني ويثمر ويدفع نحو التواضع".
وتوجه الى المتخرجات والمتخرجين قائلا: "لا تخشوا المستقبل حتى ولو بدا مظلما أو غامضا أو مبهما وصعبا في بلد تهزه أمواج الأزمات. لقد وعدنا الرب قائلا: "ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (مت 28: 20). سلموه طرقكم وهو يقوم سبلكم. لا تدعوا الخوف يشلكم، بل ضعوا كامل ثقتكم في من أعطاكم الحكمة والقوة والصبر، طيلة السنوات المنصرمة، من أجل إتمام دراستكم في المدرسة ثم الجامعة، وهو نفسه سيقودكم في دروب الحياة المستقبلية التي ستختارونها. لقد منح الله كلا منكم موهبة ورسالة، فلا تستهينوا بدوركم. أنتم لستم مجرد خريجين من جامعة، بل أبناء الله، سفراؤه في هذا العالم الذي هجرته الإنسانية والمحبة. أنتم مدعوون لتكونوا شهودا للحق في وسط الزيف، وأن تسيروا في النور ولو عم الظلام حولكم. قد تواجهون صعوبات وتجارب، وقد تصادفون من يحاول أن يثني عزيمتكم أو يشكك في قيمكم. تذكروا قول الرب: "في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا، أنا قد غلبت العالم" (يو 16: 33)".
وتابع: "عالمنا يضج بالنزاعات والحروب والتسابق إلى تصنيع الأسلحة الفتاكة. نحن نشهد مدنا تقصف بلا رحمة، أطفالا يقتلون أو يموتون جوعا أو مرضا، بشرا عزلا يستهدفون في منطقتنا وفي العالم، في الكنائس والشوارع وحتى المدارس والبيوت دون إنسانية أو رادع أخلاقي. إنسان عصرنا يكره ويظلم ويقتل ويبيد من أجل إشباع جشعه إلى المال والسلطة والمجد، متناسيا أن الأعمار والمصائر في يد الله وقد تنتزع روحه منه في طرفة عين، ويسمع ما قاله الله لمن هدم أهراءه ليبني أكبر منها: "يا جاهل، في هذه الليلة تطلب نفسك منك، فهذا الذي أعددته لمن يكون؟" (لو12 : 20 ). لو شارك الإنسان أخاه بما وهبه الله من عطايا، لو أحب وأعطى، لو ثمر الأموال الطائلة في عمل الخير ومنع الجوع والفقر ومحاربة الجهل والتطرف ونشر السلام وتشجيع الأبحاث ومكافحة الأوبئة هل كنا نعاني من الحروب وتدهور الأخلاق وانحسار القيم وتراجع الحضارات؟ هل كان الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله يموت رخيصا، وحيدا، ولا تهتز الأرض لموته، فيما الأقوياء يتقاسمون العالم؟. أنتم أملنا. المستقبل لكم، وفي يدكم مصير بلدكم. كونوا صانعي سلام، رسل محبة، بناة حضارة، أبناء حقيقيين لأبيكم السماوي. أحسنوا استعمال الحرية الممنوحة لكم من فوق من أجل البنيان، وزنوا كل كلمة تنطقون بها لأن "الموت والحياة تحت سلطان اللسان" (أمثال 18: 21 ). يقول الرسول يعقوب "من الفم الواحد تخرج البركة واللعنة" (3 :11). أما كاتب المزامير فينصح: "صن لسانك عن الشر وشفتيك عن التكلم بالغش" (مز 34 :13). أنتم اليوم تتخرجون من جامعة تحمل اسم شهيد عظيم هو القديس جاورجيوس، وهذا بذاته دعوة لكم لتقتدوا في حياتكم بالفضائل التي عاشها، وأهمها: الإيمان الراسخ، والشجاعة في قول الحق، والثبات حتى الموت من أجل خلاص الآخر. هذا العالم المحكوم بالخطيئة يتطلب منكم أن تكونوا على مثال القديس جاورجيوس: شهودا للحق، أمناء على النعمة، وراسخين في الفضيلة. قال القديس أثناسيوس الكبير: "الفضيلة لا تحتاج إلى زمن طويل لتتجلى، بل إلى قلب شجاع ثابت في الله".
أنشروا إذا نور الفضيلة إلى جانب شعاع العلم، لتكونوا من الساعين إلى الكمال الذي لا يتم إلا عبر الآخر كما قال القديس يوحنا الذهبي الفم: "ليس التعليم في ذاته ما يخلص الإنسان، بل كيف يستخدم لمجد الله وخدمة القريب".
وختم قائلا: "وصيتي لكم أن تكونوا أمناء لما تسلمتموه. لا تجعلوا شهاداتكم مجرد وسيلة للترقي والمجد الشخصي، بل اجعلوها منبرا للمسؤولية والعطاء. بلدنا بحاجة إلى مواطنين حقيقيين، رحماء، شجعان، مستقيمين، يخدمون بأمانة ويقودون بمحبة. وفي غمرة فرحكم، لا تنسوا من تعب معكم، والديكم الذين سهروا وصلوا وقدموا التضحيات، ومعلميكم الذين زرعوا فيكم بذور الحكمة والمعرفة. إذهبوا إلى العالم، وكونوا شهودا للحق أينما حللتم، فأنتم لا تحملون فقط شهادة جامعية، بل أيضا صورة الله في قلوبكم، وأنتم مدعوون لأن تعكسوها في أعمالكم. بارككم الرب وسدد خطاكم وملأ حياتكم نعما وسلاما ونجاحا".
وختاما وزعت الشهادات على المتخرجين.