بعد الانجيل ألقى عظة بعنوان "ومن هو قريبي" (لو10: 29). وقال: "إنّه سؤال مهمّ "ومن هو قريبي" لو10: 29). طرحه على الربّ يسوع ذاك الرجل العالم بالتوراة، لأنّ فيه أعطى المعلّم الإلهيّ الجديد في تعليمه. أي إنّه جعل رابط المحبّة والرحمة رابط القرابة. "قريبنا" هو الذي نعامله بالمحبّة والرحمة. هكذا أجاب عالم الشريعة. لـمّا سأله يسوع: "أيّ هؤلاء الثلاثة، في رأيك، كان قريبًا للذي وقع بين أيدي اللصوص؟" أجاب عالم الشريعة: "الذي عامله بالرحمة". فأعلن يسوع شريعته الجديدة: "إذهب واعمل أنت أيضًا هكذا" (لو 10: 36-37).
وتابع: "يسعدني أن أرحّب بكم جميعًا، وأن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة. مع تحيّة خاصّة للمحامية ماي بولس رئيسة رابطة خرّيجي كليّة الحقوق والعلوم السياسيّة في الجامعة اللبنانيّة الفرع الثاني جلّ الديب مع الوفد المرافق. كان السؤال الأساسي الذي طرحه ذاك العالم بالتوراة: "يا معلّم، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديّة؟" فكان جواب الربّ بسؤال: "ماذا كُتب في التوراة، وكيف تقرأ؟" فأجاب من دون تردّد: "أحبب الربّ إلهك من كلّ قلبك، وكلّ نفسك، وكلّ قدرتك وكلّ فكرك. وأحبب قريبك كنفسك" (لو 10: 27). فأجابه الربّ يسوع: "بالصواب أجبت! إفعل هذا فتحيا" (لو 10: 28). لكن على السؤال الثاني: "ومن هو قريبي" (لو 10: 29)، جاء جواب يسوع فتحًا جديدًا، وتطوّرًا لشريعة المحبّة القديمة. "قريبك" هو أيضًا وخاصّةً عدوّك. "قريبك" هو الذي أنت تصنعه قريبك، عندما تعامله بالمحبّة والرحمة. هذا ما أراد يسوع أن يبيّنه بالمثل الذي أعطاه: القرابة الحقيقيّة، قبل أن تكون قرابة الدم أو الدين، هي قرابة المحبّة والرحمة. الرجل الذي وقع بين أيدي اللصوص كان يهوديًّا. مرّ إثنان من ملّته ودينه، كاهن ولاويّ، فأبصراه ومالا عنه ومضيا. فلا الدين ولا الملّة حرّكا قلبيهما، ما يعني أنّهما ليسا رابط القرابة الحقيقيّة. أمّا الذي اعتنى به، بمحبّة ورحمة، هو عدوّه أي السامريّ الذّي حوّل العداوة إلى محبّة ورحمة".
أضاف: "المحبّة والرحمة هما ثقافتنا المسيحيّة التي علينا أن نعامل بها كلّ إنسان، دونما اعتبار لدينه أو ملّته أو انتمائه. يكفي أن يكون ذا حاجة. والحاجة لا دين لها ولا انتماء. فالينبوع لا يسأل العطشان عن دينه، وانتمائه. هذه بطولة الحياة في تعليم الربّ يسوع".
وقال: "تحتفل الكنيسة اليوم 8 أيلول بعيد مولد سيّدتنا مريم العذراء. يرقى هذا العيد إلى القرن السادس في الشرق. أرادت الكنيسة أن تكرّم، في هذا العيد، ميلاد مريم لأنّها تجعل منه بداءًا لخلاص البشريّة بالمسيح الذي سيولد فيها. وُلدت مريم، ككلّ إنسان، من والدَين هما يواكيم وحنّة. ولكن بتدخّل إلهيّ عصمها الله من الخطيئة الأصليّة، الموروثة من أبوَينا الأوّلين آدم وحوّاء، حسب كتب الوحي الإلهيّ. عصمها الله لأنّه أعدّها لتكون أمّ إبنه، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، الذي ستحبل به، بقوّة الروح القدس، وهي عذراء مخطوبة ليوسف. وسيأخذ في التاريخ اسم "يسوع المسيح". فاستباقًا لعمل الفداء والخلاص، المدعوة لتشارك فيه، ولاستحقاقات ابن الله المتجسّد منها، عصمها الله من الخطيئة الأصليّة، فكانت عقيدة الحبل بلادنس، التي أعلنها الطوباويّ البابا بيوس التاسع في 8 كانون الأوّل 1854، والتي أكّدتها مريم العذراء، بعد أربع سنوات، في إحدى ظهوراتها للقدّيسة برناديت في لورد سنة 1858، عندما سألتها عن إسمها، فأجابت: "أنا الحبل بلا دنس".
وتابع: "بالمحبّة والرحمة تتوقّف الحرب على غزّة وفي جنوب لبنان. استمرار الحرب ضعف وخسارة للجميع: خسارة أرواح الله وحده هو سيّد حياتها وموتها، خسارة استقرار المواطنين الآمنين بتهجيرهم، هدم البيوت وحرق الأرض والممتلكات وجنى الأعمار من دون سبب سوى الهدم. لو يفكّر ضميريًّا أمراء الحروب في كلّ هذه النتائج، لتوقّفوا عن فعلهم هذا الذي هو علامة ضعفهم لا بطولتهم. ولو يفكّرون بالأموال الطائلة التي ينفقونها في الحرب وفي التسلّح، ويحرمون شعوبهم منها، وبأيّ سلطان يفعلون هذا ولأي أهداف، لأدركوا شرّ الحرب، وذهبوا إلى التفاوض السلميّ. وبثقافة المحبّة والرحمة، تعيش مكونّات الدول وحدتها الداخليّة، على تنوّع ثقافاتها وأديانها. لا يكفي أن نعلن رغبتنا بالشراكة الوطنيّة من دون إرادة الفعل، وتغيير السلوك، ونزع الولاءات الخارجيّة، والإتفاق على "المختلف". دولة لبنان الكبير تتألّف من جماعات كانت تتفاعل قبل إمارة جبل لبنان وأثناءها وبعدها. تاريخنا الجماعيّ السياسيّ أخبار وتقاتل واجتياح وسيطرة، خلافَ تاريخنا الخاص المقتصِر بإبداعاته على النخب والأفراد. ورُغم ذلك، غامرنا وأسّسنا دولة لبنان الكبير خلاصة مكوّنات الشرق لتكون مقبولة في محيطها العربيّ، فإذا بالمحيط يقبلها، ومكوّنات لبنانيّة ترفضها. مشروعنا هو التعايش السلميّ والحضاريّ بين المسيحيّة والإسلام ومع محيطنا الطبيعيّ. نحن آمنّا بالإنتماء العربيّ، وأطلقنا الفكرة العربيّة لتحرّر شعوب المنطقة من "التتريك"، لا اللبنانيّين من "اللبننة".
وقال: "إنّ اللبنانيين يعانون اليوم من ثقل التربية والتعليم والصحة والإستشفاء والغذاء والمعيشة وفرص العمل وسواها وهي من صميم مسؤولية الدولة الملتزمة برعاية أبنائها. لكنّها معدومة طالما أنّ الدولة بلا رأس وفاقدة الجانب الأعلى من ميثاقيتها، الذي يستمر فارغًا منذ ما يقارب السنتين. إن هذا الفراغ الذي يبدو متعمّدًا يترك تداعيات سلبية كبيرة على المستوى الوطني أولها عدم انتظام المؤسسات، وتفكك الإدارة واستباحة القوانين والأعراف وصولًا إلى استهداف مواقع ومراكز مسيحية وبخاصة مارونية في الدولة تمهيدًا الى قضمها، ما بات يهدد صيغة المشاركة والمناصفة في الحكم والادارة. الكل بانتظار المبادرات الخارجية، المشكورة، التي لا يجوز أن تختزل إرادة اللبنانيين عبر ممثليهم في مجلس النواب. فمن المؤسف والمعيب ان يبقى انتخاب الرئيس أسير رهانات على الخارج، او على استحقاقات أو تطورات خارجية وهمية. وأن تبقى كتل نيابية اسيرة رهاناتها الضيقة الخاطئة. إن التحرك الداخلي المطلوب هو ضرورة لنجاح المساعي الخارجية، وأبرزها مساعي اللجنة الخماسية، التي استأنفت تحركها المتعلق بالاستحقاق الرئاسي هذا الاسبوع، والذي نأمل له النجاح بتجاوب المجلس النيابي الذي يبقى المسؤول الاول والاخير عن اتمام هذا الاستحقاق ووضع حدّ للحالة السياسية غير السليمة وغير المألوفة والشاذة في لبنان".
وختم: "فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات، سائلين الله أن يملأ قلوبنا بالمحبّة والرحمة اللتين بها نستطيع أن نعيش معًا بسلام وأخوّة إنسانيّة، وننشرها ثقافة نجسّدها بالأفعال".
بعد القداس استقبل البطريرك المشاركين في الذبيحة الالهية.